توازن وتناسق..
قال عالم البيولوجيا (جودسون هريك): (لو جمعنا كل ما في العالم من اجهزة تليفون وتلغراف ورادار وتلفزيون، ثم ضغطنا هذه الكومة الهائلة من الأجهزة المعقدة حتى جعلناها في حجم الدماغ البشري، ثم رحنا نشغلها بكل طاقتها، لما استطاعت أن تؤدي ولو جزءاً يسيراً مما يؤديه الدماغ من مهام!). وقال عالم آخر: (لو أردنا أن نصنع جهازاً يؤدي العمل الذي يؤديه الدماغ لاحتجنا إلى أدوات تملأ عمارة تعادل في حجمها حجم ست ناطحات سحاب مثل - إمباير ستيت-، وإلى أسلاك تزن عدة مئات من الأطنان، وإلى كل مياه نهر- هدسون- لتبريد هذا الجهاز، المرة بعد المرة، لئلا يحترق، أثناء تشغيله، ويغدو رماداً!).
وها هو ذا الدماغ الذي لا يد لنا في صنعه، بل لا طاقة لنا بفهم عمله، بشكل دقيق، يقوم بما خلق من أجله دائباً في الليل والنهار، طيلة العمر.. وما من ذرة في الجسم تخرج عن نطاق هيمنته.. ولا يملك الإنسان إلا أن يتساءل، بكل ما أوتي من دهشة: كيف صفت أجزاء هذا الدماغ، وسويت، في هذا الحيز الضيق الذي يشغله؟؟.
لو لم يكن، ثمة، توازن وتناسق تامان بين العضلات والعظام والمفاصل والأعصاب والدماغ، لما استطاع الإنسان أن يقف أو أن يجلس أو أن يمشي، أو أن يحرك ساكناً في جسده أو فيما حوله.. وأي خلل يصيب الدماغ يعطل هذا التوازن: فإذا العين لا تستقر أثناء النظر، وإذا المشية تضطرب وتهتز، وإذا اللسان يتلعثم ولا يبين..
قشرة الدماغ..
إن قشرة الدماغ التي لا تتجاوز مساحتها قدمين مربعين تضم من القارات الشواسع والمجاهيل الهائلة ما يحتاج اكتشاف ملليمترات منه إلى جهود العديد من العلماء الأفذاذ المتفرغين لسنوات عديدة.
يقول (جون فايفر) في كتابه (الدماغ البشري) إن باحثة متخصصة من جامعة (ميتشجان) قضت ثلاثين عاماً، وهي تعمل بدأب متواصل للكشف عن بعض الممرات العصبية في الدماغ، في محاولة للإجابة على سؤال واحد: كيف تنقل الألياف العصبية كل ما يعتري الإنسان من أحاسيس متباينة، وكيف يدرك الدماغ معنى كل من هذه الأحاسيس على حدة، دون أن يختلط عليه إحساس بآخر، ولو مرة واحدة؟.
يقول العالم (باستير): (كلما ازددت علماً بتركيب هذا الكائن البشري، ازددت إيماناً بالله.. وكل تقدم علمي إنما يبين ويسجل هذا الاتساق المذهل في خلق الله.).
الجهاز العصبي..
كيف يتحكم الدماغ في حركة جوارح الجسد وأعضائه جميعاً؟.
الدماغ محطة مركزية هائلة تتلقى ملايين الرسائل وترد عليها في كل آن، بسرعة عجيبة تعجز الواصفين. وأهم أجزائه المخ والمخيخ والنخاع المستطيل الذي يصل بين المخ والنخاع الشوكي.. إن فيه مائة ألف مليون خط من الأعصاب تصله بكل أعضاء الجسم.. وفي العصب البصري وحده مليون خط قادم من العين، فكيف بسائر الجوارح؟. كما أن في الدماغ آلاف الملايين من الخطوط الأخرى التي تقوم بمهمة الربط بين سائر الخطوط، ويبلغ عدد الإشارات التي تصب في الجهاز العصبي، في الثانية الواحدة، مائة مليون إشارة قادمة من مختلف أعضاء الحس، لا يصل منها إلى قشرة الدماغ، في الثانية، إلا مائة.. فيما تنتهي مسيرة سائرها إلى النخاع الشوكي حيث تحقق غايتها عن أقرب طريق، ويظل الدماغ للمهام الصعبة فحسب.. وإذا انقطع الأوكسجين عن الدماغ لمدة خمس دقائق ماتت خلاياه العصبية، وهيهات أن تعود إلى العمل من بعد.
الجزء الأيسر من الدماغ يتحكم باليد اليمنى وبقدرات العد والنطق والمهارات العلمية.. أما الجزء الأيمن منه فيتحكم باليد اليسرى وبالخيال والأشكال الثلاثية الأبعاد والمعرفة الموسيقية والفنية.. ويسيطر الجهاز العصبي على الوظائف الإرادية واللاإرادية من دقات القلب إلى ضغط الدم ودرجة حرارة الجسم وعمل الحواس وهو يفعل ذلك بدقة فائقة.. فهو، مثلاً، يحول بينك وبين سماع تغريد الطيور إذا كنت جالساً تقرأ كتاباً، تحت شجرة.. أما إذا أردت أن تصغي، فهو يحول بينك وبين الكتاب المفتوح بين يديك!.
وقد أثبت بعض العلماء- بعد تجارب كثيرة- أن للدماغ قابلية عجيبة للتكيف.. ففي مركز بوسطن الطبي أثبت العالم (ألفرو ليون) وزملاؤه أن اللحاء البصري للأعصاب Visual Cortex هو الذي ينظم حاسة اللمس لدى مكفوفي البصر.. وسموا ذلك (قوة نظر اللمس).. وتساءلوا: ترى هل يستطيع الدماغ أن يمنح هذه القدرة للمبصرين؟. فوضعوا كمامات محكمة على أعين عدد من المتطوعين لمدة مائة ساعة، وجعلوهم يستعملون جهاز (بريل).. فإذا هم يستقبلون مهارات اللمس تلك تماماً كالمكفوفين، فلما أزيلت عنهم الكمامات ارتدت أدمغتهم إلى سابق طبيعتها. كما أن الدماغ يزيد من قدرته على ربط المعلومات كلما أراد صاحبه أن يزيد معلوماته في أي مجال.. فسائق التاكسي، مثلاً، تنمو قدرة دماغه على إدراك الأمكنة والمسافات، كلما ازداد حفظاً لخارطة المدينة التي يتحرك في أرجائها. (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه).
ماء وأوكسجين..
ويشكل الماء ثمانين بالمائة من حجم الدماغ.. ولكي يقوم الدماغ بمهمته يحتاج إلى ما نسبته خمسة وعشرون في المائة من الأوكسجين الذي يتلقاه الجسم. وقد تبين أن النبضات العصبية القادمة من الدماغ وإليه، تتحرك بسرعة مائة وسبعين ميلاً في الساعة. كما تبين أن بعض الأدوية، والكحول، والسجائر تؤثر في قدرة الأعصاب على القيام بمهامها، وتحول بينها وبين السيطرة على الجسم بالطريقة الملائمة.
العناية الإلهية..
هذا ويخف الدماغ وجهازه العصبي لنجدة أي عضو في الجسم يتعرض لخطر ما.. فالأعصاب تبعث إشارة إلى الدماغ، مروراً بأعصاب النخاع الشوكي التي تستنفر العضلات قتنقبض، فتتحرك العظام لتبعد العضو المصاب عن موقع الخطر، ثم تتعهده عناصر شتى في الجسم بالعلاج. تلك هي العناية الإلهية تصحب الإنسان في كل حركة وسكنة.. يدرك بعض مظاهرها أولئك الذين أخذوا من العلم نصيباً.. يقول العالم الكيميائي (وتز) عضو أكاديمية العلوم الفرنسية: (كلما اهتز إيماني تحت أي ضغط من ضغوط الحياة، هرعت إلى أكاديمية العلوم، فإذا بهذا الإيمان يثبت ويشتد). ويقول أينشتاين: (إن الإيمان بالله هو أقوى وأنبل نتائج البحوث العلمية.. والعلم بلا إيمان إنما هو كالأعمى الذي يتلمس طريقه في متاهة مظلمة).
دماغ الجنين..
ويوفر الدماغ هذه الحماية للإنسان حتى وهو جنين في رحم الأم. فهو ينتج مواد مسكنة للألم تنساب إلى المشيمة في الدم.. ومن هذه المواد ما يزيد مفعول التهدئة فيه خمسين ضعفاً عن أقوى العقاقير المعروفة كالمورفين.. وترتفع معدلات هذه المواد المسكنة للألم في الدم، كلما اقترب موعد الولادة، واشتدت إليها حاجة الجنين.
لقد ثبت علمياً أن أول ما يؤتى الجنين حاسة السمع، ثم يرى الضوء الخافت الذي ينتهي إليه عبر جدران الرحم، ويأخذ في التنفس، ويمص أصابعه، ويمسك الاشياء، وقد يتأرجح بالحبل السري، ويبتسم.. وهذه التجارب التي يحياها الجنين تعد مراكز دماغه المختلفة للعمل، وتنتقش عليها لتكون بذور ذاكرة بدائية قد يكون بالإمكان استرجاعها في المستقبل.
الغذاء المناسب..
ويحتاج الدماغ لكي يقوم بعمله على خير وجه إلى أغذية مناسبة ومتوازنة.. وقد اعتاد على الأغذية التي كان يأكلها البشر منذ القدم كالفاكهة والخضار والحبوب والعسل واللحوم والاسماك.. وعندما حلت أغذية جديدة غير صحية وغير متوازنة محل تلك، ضعفت قدرات الدماغ بشكل ملحوظ. ويختزن الدماغ المواد الكيميائية داخل خلاياه، في أكياس معلقة بنهايات فروع معينة لهذه الخلايا، حتى إذا مستها شحنة كهربائية تحررت لتنتقل إلى سائر الخلايا.. وكلما كان الدماغ مشبعاً بهذه المواد الكيميائية الطبيعية قلت حاجته للأدوية.. ويقول العلماء إن للمنبهات الصناعية مثل الكافيين والكوكايين والأمفيتامين تأثيراً ضاراً على الجهاز العصبي يدفعه إلى التهيج أو إلى الإعياء، مما ينعكس سلباً على قيامه بمهماته.. كما أن ما يبذله الإنسان من جهد في اللهاث وراء شهواته المختلفة يرتد أذى على حركة الدماغ ويصيبه بالإعياء.. يقول (كازانتزاكي): (يتحدثون عن حرية اللذة والمتاع.. أية حرية؟ إنها حرية الفوضى العدمية في داخلنا، وإنما نحن مطاياها.. إنها تسرجنا وتذهب بنا.. ولكن إلى أين؟).